من كنوز كلمتك
تقديم وقراءة شبه نقديه للفاضل الشيخ نعيم عاطف.
يقول كاتبنا فى أحد مقالاته إن الناس لا يعلمون أن "وراء الكلام كلام وبداخل الكلام معانٍ ونوراً" ومع انه قال هذا الكلام فى سياق مختلف عما أعنيه، إلا أنها تُعَبِّر بحق عن محتوى هذا الكتاب الفريد. فكاتبنا المبدع يرتب كلماته ومفرداته وجُمَله وعباراته بطريقة الصائغ الذى يشكل خاماته ويصوغ إبداعاته ويلمعها ثم يضعها فى علبة من القطيفه، ويحملها بأطراف أصابعه ليعرضها فى واجهة المحل!
والملاحظ فى نتاج فكر هذا الكاتب انه لا يحترف الكتابه بقدر ما يحترف التأمل، و قد إستوقفنى فى هذا الكتاب بعض السمات الخاصة والمتميزة ومنها أن الكاتب:
يهتم بعناصر من خارج المشهد قد لا تلفت غيره، فهو يهتم مثلاً "بالوحش الردىء" فى قصة يوسف وهو وحش لا وجود له فى الحقيقه، لكن الكاتب يتخذ منه مدخلاً مثيراً لمناقشة صُلب القضية!
وينتقى شخوصه وموضوعاته من هامش الأحداث، ففى مشهد العبور المثير للبحر الأحمر لا يتحدث عن المعجزه ولا عن الشعب ولا عن الكهنه لكن ما يشغله هو "البحر الجريح" الذى شقته الرياح، ومنه يدخل الى تطبيقات حياتيه وروحيه عميقه حول المشرط فى يد الله الذى "يجرح ويعصب .. يسحق ويداه تشفيان" ويقول إن جُرح المسيح كان عميقاً وواسعاً كإتساع البحر!
وهو يستخدم المقابلات بذكاء ويربط بين المترادفات، فيتحدث عن الجوع والشبع، الكلام والصمت، وعن البدعة والابداع، وعن الطين والعجين، وعن المسمن والمثمن. كما يقابل بين الحوت الذى ضم يونان والقبر الذى ضم المسيح، وهو يرى ثمة علاقه بين الموس الذى حلق رأس شمشون والسيف الذى قطع رأس المعمدان، ويرى فى موس شمشون هواناً وذلاً ويرى فى سيف يوحنا كرامة ومجداً، وفى موضع آخر يقارن بين ثقب الإبره الضيق الذى لا يسمح بدخول أحد وباب الفلك الواسع الذى يرحب بالجميع، وفى موضع ثالث يقارن بين حبة الخردل الصغيره والدلو الكبير فى يد السامرية، كما يقابل بين حنة فى الهيكل والسامرية عن البئر، ويقابل بين رأس يونان الملفوف بعشب البحر ورأس المسيح الملفوف بمنديل من كتان، وغير ذلك من المقابلات الذكيه والعميقه
ويستدعى عقل الكاتب أشياء وأشخاص من أبعاد ساحقه، فهو يتحدث عن مشهد آدم وحواء يخيطان لنفسيهما ردائين من ورق التين، ثم ينتقل من مشهد سفر التكوين الى مشهد الجلجثه ليتأمل فى قميص المسيح الذى لم تمسه يد حائك، ومن ذات المنطلق يربط بين شخصيات متباعدة من العهدين القديم والجديد تجمعهما او تفرقهما الصفات او المواقف. ومن ذلك المقارنه بين "الأرمله الصيدونية" و "الغنى الذى أخصبت كورته"!
ويفترض كاتبنا أحياناً حدوث أشياء لم تحدث أو يفترض عدم حدوث ما حدث، وهو يهدف من ذلك الى فتح مداخل فكريه تعمق الرؤيه، ومثال لذلك افترض ان الحوت لم يبتلع يونان وما كان سيترتب على ذلك من نتائج
ويمنح كاتبنا أسماء تعبيريه خاصه للمسميات العامه، فهو يسمى الحوت بالغواصه، و يشبه موقع شفاء نازفة الدم بحلبة المصارعه، ويشبه العقل البشرى بالشارع، كما يشبه تخليق الفكرة داخل العقل بحركة المرور، ويصف الصلاة بأنها ذبذبات واشارات لاسلكيه تكشف عن أحاديث متباينه بين الشك واليقين، واليأس والأمل، وغير ذلك من التسميات و التشبيهات
ولا يتردد كاتبنا فى إقتحام القضايا والاشكاليات الفكريه، فيتحدث عن الاصوليه الفكريه والمستنسخات وعشق الموروثات، والتمسك بالاطر الخارجيه، والاستسلام للتلقين، وافتقاد روح الابداع، والتفكير النمطى، وخطر التلقين، والهلاوس الدينيه ذات الطابع الوثنى، وتقديس المتعلقات الدينيه، وغير ذلك من القضايا
ويجيد الكاتب التنقل بين كتابه المقدس ومشاهداته المعاصره، فيتبع الايات بالمشاهدات، ويذيل المشاهدات بالنصوص والاحكام، ويتبع الافكار بالتعليم، ويتبع التعليم بالصلاة، كما نلمس فيه روح الطبيب ودقة الجراح فنراه يتحدث عن "قراءة الجروح" و "مشرط المسيح" وعن الشفاء والعلاج وغير ذلك
الحق اننى استمتعت بقراءة هذا الكتاب الرشيق واذ احيى الكاتب الملهم الدكتور ريمون جوزيف، فإننى اصلى ان يستخدمه الرب فى ايقاظ اذهاننا، و بناء قدرات جديده فى تفهم الكلام وما وراء الكلام من نور ومعان
تقديم الكاتب
أمام كتاب ليس فقط مسطور بأقلام لكن مرسوم بريشة فنان، لا تكفى القراءة العابرة لإستبيان الخفايا لكن لابد من التأمل والتخيل والإعلان للكشف عن أجزاء الصور المختفيه وراء الكلام، ففى كتاب كاتبه روح الله أشعر ان ذكائى غباء، وقدراتى كالعدم، وان هناك احتياج عميق لذكاء المسيح لفك شفرات النصوص، واعلان الروح لتحريك جمود الشرائع، إنه الكتاب المقدس
فى زمن إختفت فيه الالوان البسيطه السهله المعروفه، وكثرت درجات الألوان وكسورها حتى اننا فى كثير من الأحيان ما عدنا نعرف لها اسماء فنُعرِّفها بأنها (تميل الى ......) فى زمن الرمادى يتعمق الاحتياج لنور هادى
فى زمن إختفت فيه الفواصل وتداخلت المعانى، فى زمن تهشمت فيه الحواجز وإختلطت المياه، أصبحنا فى إحتياج شديد الى تعريفات جديده، أصبحنا فى إحتياج شديد لأن ينطق المولى بسلطان من جديد (ليكن فاصلاً بين مياه ومياه) نعم ففقدان المعنى والتوصيف يتبعه دائماً حيره وإحتياج للتعاريف، كما أن تعدد المعانى والتفاسير يتبعه دائماً تيه وإحتياج للتعابير
عندما تأكل الأسئله خلايا ذهنك، وتشعر أن نسيج عقلك يتمزق ويتآكل، عندما تنهش علامات الإستفهام ثوابتك فتنهار أساساتك، عندما تضرب الشكوك صلابتك فترتعش جزيئاتك، عندما يحصرك الزمن ويحشرك فى حقبة بلا إجابات، لا تجزع، الله يحرث الارض لاستقبال بذار الإجابات الشافيه، الله يصلحها ويفلحها، الله يحرثها ويحرسها
وعندما تشرق الشمس ستختفى العتمه، عندما يهطل المطر ستختفى الحفر وتختفى النقر، عندما يعلن الله ستنحل المعضلات وتنفك العقد، عندما يتكلم المعلم يصمت التلميذ ويكتب
عزيزى القارىء قبل ان اضع بين يديك هذا الكتاب وضعته بين يدى الله ليباركه ويستخدمه لبركة الكثيرين، راجياً ومصلياً من قلبى ان يمنحك الله من خلاله مزيداً من النور والثبات واليقين، ليكن إجابات لعقلك المجهد وماء لروحك العطشى.